ذوات الـ13 عاماً..
يحملن ندوب
طالبان في قلوبهن
في صيف عام 2021، تغيّرت حياة ملايين النساء والفتيات في أفغانستان مع عودة طالبان إلى السلطة. منعت تعليم الفتيات ما فوق الصف السادس، وأغلقت أبواب المدارس، وجعلت مستقبلهن وأحلامهن على الهامش. هذا التقرير يروي قصة أربع فتيات مراهقات من كابل، وهرات، ومزار شريف، ومناطق أخرى، من اللواتي واجهن أيديولوجية طالبان العنيفة في عمر التاسعة، ويقفن اليوم في عمر الثالثة عشرة خلف أبواب المدارس المغلقة، ينظرن إلى الماضي بحسرة وخوف وأسف. يتحدثن عن الحرمان من التعليم، والقيود الاجتماعية، والضغوط النفسية. وتظهر هذه الروايات كيف أن مرسوماً واحداً من زعيم طالبان هبة الله آخوندزاده، جعل تعليم ومستقبل ونفسية جيل من النساء الأفغانيات في أزمة.
في أغسطس من العام ٢٠٢١، حين دخل مقاتلو طالبان إلى العاصمة الأفغانية كابل، كانت "لاله"، الفتاة الطويلة ذات العيون البنية والشعر المجعد، قد احتفلت لتوّها بعيد ميلادها التاسع.
لم تكن تتابع الأخبار، ولم يكن يهمها كثيراً من فرّ من المدينة ومن استولى عليها.
قبل يوم واحد فقط من دخول طالبان إلى المدينة، كانت "لاله" تقف بجانب طاولة عيد الميلاد الصغيرة مرتديةً فستانها الأزرق المزهر. كان الرقم 9 يتلألأ فوق الكعكة البسيطة التي أعدتها أمها، بشموع صغيرة ملوّنة. صفّق أخوها الأصغر، وصوّر والدها المشهد بهاتفه. عندما غرست "لاله" السكين في الكعكة، ضحك الجميع. رفعها والدها بين ذراعيه بعد أن أخذ منها وعداً، وضحك الجميع؛ دون علم بأن أياماً صعبة في انتظارهم.
كانت "لاله" حينها في الصف الثالث الابتدائي. ومنذ الصف الأول كانت من الطالبات المتفوقات في مدرستها. احتفظت بكشوف درجاتها السنوية كـ"ذكريات جميلة من الحياة". وتُظهر هذه الوثائق أن معدلات "لاله" لم تنخفض أبداً عن 90٪ في المئة: القرآن الكريم 100، الدراسات الدينية 100، اللغة الفارسية (الدرية) 100، اللغة البشتونية 100، الرياضيات 98، الرسم 100، الخط 100، التربية البدنية 100، السلوك 100.
كشف درجات "لاله" في الصف الثالث
"تبسُّم" في مزار شريف، و"عائشة" في كابل، و"ستايش" في هرات، جميعهن في نفس عمر "لاله"، وقد بلغن اليوم 13 عاماً. حياة هؤلاء الفتيات الأربع، رغم أنهن لا يعرفن بعضهن، تأثرت بشكل متساوٍ خلال السنوات الأربع الماضية بسياسات طالبان التقييدية، ويمررن جميعاً بحالة نفسية متشابهة. تشرح الفتيات الأربع في مقابلات منفصلة مع "أفغانستان إنترناشيونال" بتفصيل كيف أن قرار زعيم طالبان هبة الله آخوندزاده، بشأن إغلاق مدارس الفتيات فوق الصف السادس، قلب حياتهن رأساً على عقب.
في عام 2021، كانت "تبسّم"، المقيمة في ولاية هرات، تبلغ من العمر 9 سنوات، وكانت في الصف الثالث. كانت ترتدي يومياً زيها المدرسي الأسود والحجاب الأبيض، وتذهب مع زميلاتها إلى المدرسة. كانت سعيدة لأنها كانت ترسم، ووفقاً لما قالته بنفسها: "أعظم فخر في حياتي أن الأستاذة عزيزة، معلمة مادة العلوم، كانت تقول لي كم أحب واجباتك المنزلية".
إحدى زميلاتي في الصف كانت تريد الذهاب إلى الفضاء
تضع "عائشة" الفتاة من كابل، أمامها الآن زي المدرسة وحقيبتها وكتبها، وتسترجع ذكرياتها من عمر 9 إلى 13 عاماً. تقول: "كل زميلاتي في الصف كانت لديهن أهداف كبيرة. إحداهن أرادت أن تصبح طبيبة، وأخرى كانت تحلم بأن تصبح مهندسة، وثالثة أرادت أن تصبح طيّارة. وحتى واحدة من زميلاتي قالت إنها تريد الذهاب إلى الفضاء وتصبح رائدة فضاء. كانت تقول: أحب أن أعمل في ناسا. وأنا أيضاً كنت أستلهم من زميلاتي لأفكر في أهداف أكبر في الحياة".
هؤلاء الفتيات يتذكرن أيام المدرسة على أنها "أفضل لحظات الحياة": عند اقتراب الربيع، حين يستعد الآباء والأمهات لبداية العام الدراسي الجديد، ويشترون لأطفالهم أقلام الرصاص، والألوان، والأقلام الجافة، والزي المدرسي الجديد. ويوم المعلم، حين كان جميع الطلاب يُحضِرون الهدايا لمعلميهم، وتمتلئ المدرسة بالبالونات والمأكولات الملونة. أو أيام إعلان نتائج الامتحانات، حين يكون الجميع في انتظار ثمرة عام كامل من الجهد.
قالت عائشة عن الصف الثالث: "حين كنا ندخل المدرسة، كان من الساعة 7:30 إلى 8:00 صباحاً يُنفّذ برنامج الساحة (الطابور الصباحي). كل يوم، كانت مسؤولية طلاب أحد الصفوف تنفيذ برنامج ثقافي على المسرح. مثل تلاوة آيات من القرآن، النشيد الوطني، مسرحية قصيرة، إلقاء الشعر أو قراءة مقال".
تقول عائشة: الآن أفهم بشكل أفضل كم كانت هذه البرامج تُعزز من جرأتنا، وتعلمنا أن نتحدث أمام جمهور كبير.
أُمِرَت الفتيات في سن العاشرة بوضع النقاب
عندما بلغن الفتيات سن العاشرة، ودخلن الصف الرابع، لم تسر الأمور كالمعتاد. مع مرور الأيام، بدأت المدرسة تنحرف عن مسارها الطبيعي، وأصبح الطلاب في ولايات مختلفة من أفغانستان يشهدون تغييرات متزايدة في الصفوف وبيئة المدرسة.
بحسب رواية عائشة: "يوماً بعد يوم، كنا نشهد تغييرات جديدة في مدرستنا. كل يوم تأتي قيود جديدة. علمنا في أحد الأيام من إدارة المدرسة أنه تم منع تنفيذ برامج الساحة للصف الرابع والخامس والسادس".
تتساءل عائشة: "كم عمر فتاة في الصف الرابع؟ فتاة في العاشرة من عمرها لم يعد مسموحاً لها أن تقدم برنامجاً في الساحة. لأنه بات يُنظر إليها على أنها مراهقة، ولا ينبغي لصوتها أن يُسمع علناً".
لكن التغييرات لم تتوقف هنا. "بعد عدة أسابيع، مُنع خروج الفتيات فوق الصف الرابع أثناء الاستراحة. عندما يُقرع جرس الاستراحة، لم يكن يُسمح لنا بالخروج من الصف".
فيما بعد، أعلنت إدارة المدرسة قراراً جديداً: يجب على الفتيات في الصفين الخامس والسادس أن يغطين وجوههن بالكمامة.
في أغسطس 2023، أقرّت طالبان قانون "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وبحسب أحكام هذا القانون، يُعتبر صوت النساء "عورة"، وتُلزم الفتيات والنساء بتغطية وجوههن بالنقاب.
حين بلغت الفتيات سن الحادية عشرة، كنّ يذهبن إلى المدرسة وهنّ يرتدين النقاب الذي يُغطي وجوههن. وبالرغم من كل القيود، كنّ يواصلن الذهاب إلى المدرسة، ويحاولن الصمود أمام الضغوط.
لم تتوقف دموعي في آخر يوم دراسي
قالت "تبسُّم" الفتاة التي من مزار شريف: "الزمن كان يمرّ بسرعة كبيرة. وصلت بسرعة إلى الصف السادس. وكلما مرّ الوقت، كنت أشعر بسوء أكثر. إلى أن اقتربت الأيام الأخيرة من المدرسة، وكان علينا أن نستعد لتوديعها".
"الأيام الأخيرة جاءت بسرعة كبيرة. كيف يمكنني أن أصف لكم كيف كانت تلك الأيام؟ وماذا كان يدور في قلوبنا؟ لم أكن أريد أن أبكي، لكن دموعي كانت تسقط بغير إرادتي، ولم أستطع أن أوقفها".
كانت قطرات الدموع تنزل من رموش "تبسُّم" وتبلل خدّيها. قالت: "ليتني لم أبلغ الثانية عشرة".
في اليوم الأخير الذي ذهبت فيه تبسُّم إلى المدرسة، رأت أن كثيراً من زميلاتها لم يحضرن. "ربما لم يتحملن مرارة ذلك اليوم. أعز صديقاتي "مريم" لم تأتِ في ذلك اليوم أيضاً. جاء عدد قليل من الطالبات فقط. أغلبهن قررن ألّا يأتين كي لا يتألمن في ذلك اليوم".
تبسُّم تراجع دروسها
"لكن قبل ذلك بيوم، كانت مريم قد جاءت. وكان الباقون كذلك. في ذلك اليوم لم يحصل أحد على أي دروس. جلسنا جميعاً واسترجعنا ذكريات السنوات الست في المدرسة. بكينا وضحكنا. في ذلك اليوم، التقطنا عدة صور جماعية بهاتف معلمة العلوم، لكن في اليوم التالي لم يكن سوى بكاء ووداع بالأحضان مع الزميلات. أي إنسان يمر بتلك اللحظة سيتمنى الموت حتى لا يشهد مثل تلك اللحظة المريرة في حياته".
أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) أن القيود التي فرضتها طالبان على النساء والفتيات في أفغانستان حتى الآن قد أثّرت على نحو 1.5 مليون طالبة. وحذّرت "اليونسكو" من أنه إذا استمرت هذه القيود حتى عام 2030، فسيصل عدد الفتيات المحرومات من التعليم إلى أكثر من 4 ملايين فتاة.
كيف تقضي ذوات الثالثة عشر عاماً أيامهن؟
قالت "تبسُّم": "الثالثة عشرة من العمر هي سن مرير للفتيات في أفغانستان". وكجميع من هنّ في عمرها في مختلف أنحاء البلاد، لم يعد مسموحاً لها بالذهاب إلى المدرسة. تقضي أيامها في مساعدة والدتها بأعمال المنزل، من غسيل الصحون وتنظيف البيت إلى الطبخ. تبذل قصارى جهدها لكي لا تنسى دروس المدرسة. تراجع دفاترها وكتبها، وتعيد مراراً وتكراراً قراءة ما درسته سابقاً. تشاهد البرامج التعليمية على التلفاز، وتفتح كتب أختها الكبرى التي بقيت في المنزل، وتقرأها بمفردها.
بعدما أُغلقت أبواب المدرسة أمام الفتيات، التحقت "ستايش"، الفتاة التي من هرات، بمركز تعليم "تطريز الخرز". وبعد شهرين، أصبحت قادرة على صنع حقائب يد صغيرة، وقلائد، وأساور، ودبابيس، وحلقات مفاتيح، وأقراط، وغيرها.
ومع ذلك، قالت "ستايش" إنه لا يوجد سوق جيد لمنتجاتها الفنية، ولهذا السبب لم تتمكن من تحقيق دخل من عملها في تطريز الخرز.
يرتد صدى صوت "طقطقة" الخرز في الغرفة الصغيرة. تدور أصابع "ستايش" الصغيرة فوق القماش الأبيض. تلتقط خرزات ملونة واحدة تلو الأخرى من علبتها الصغيرة، وتخيطها بخيط أزرق على القماش. المرأة التي علمتها التطريز كانت قد قالت لها: "كلما ضاق صدرك، طرزّي وردة. سيتّسع صدرك."
تجلس "ستايش" أياماً طويلة في المنزل وتطرّز وروداً، لكنها تتوقف في منتصف العمل، وتضع الخرز جانباً، وتقول: "مهما طرّزتُ من ورود، لن أنسى الحنين إلى المدرسة."
تطريزات "ستايش" في هرات
وتقول "لاله"، الفتاة الصغيرة من كابل: "أشتاق حقاً إلى كل لحظة قضيتها في المدرسة. لكنني أشتاق أكثر إلى يوم المعلم الذي كنا نحتفل به مع زميلاتي. حين كنا نذهب إلى المدرسة معاً، وعندما كان يبدأ العام الدراسي الجديد، كنا نستعد له بحماس. نشتري أقلاماً ودفاتر وملابس جديدة. الحماس لرؤية زميلاتي... مهما قلت، لن أستطيع أن أصف ذلك الشعور."
تتذكّر عائشة من جديد البرامج التي كانت تقدمها في الطابور الصباحي، وتقول: "الآن، في أي تجمع يزيد عن شخصين، لا أستطيع أن أرفع صوتي بسبب خجلي. لا أصدق أنني نفس الفتاة التي كانت تُقدّم عروضاً تمثيلية في الساحة أمام مئات الطالبات والمعلمات."
وبحسب ما تقوله عائشة، فإن بعض زميلاتها، بعد إغلاق المدارس، التحقن بالمدارس الدينية، حتى لا يعزلن أنفسهن تماماً في البيوت.
أما "ستايش"، فتقول: "ما زلت لم أستسلم. لقد سجلت اسمي في صفٍّ تعليمي عبر الإنترنت".
وتطلب "تبسُّم" من "كل من لديه فرصة للدراسة في أي مكان في العالم" أن يثابر على الدراسة أكثر، "لأن هذا أمر ليس متاحاً للجميع". وتتوقف لحظة، والدموع تترقرق في عينيها، وتتابع قائلة: "رسالتي لهن أن أقول: هنيئاً لكنّ".
وتوجه "عائشة" رسالة إلى فتيات أفغانستان قائلة: "لا تيأسن". ثم تقول: "لو كان لدى العالم آذان صاغية، لربما كانت لديّ كلمات أقولها لهم، لكن للأسف، لا يسمعون... لذلك، لا أقول شيئاً".
تعتبر طالبان الخامس عشر من أغسطس 2021 "يوم الفتح"، وهي تحتفل الآن بالذكرى الرابعة لاستيلائها على السلطة في أفغانستان.
"لاله" أيضاً، في مثل هذه الأيام، تُطفئ شمعة عيد ميلادها. مرة أخرى، أعدت والدتها الكعكة بمحبتها المعهودة، وتلمع شمعة عمر 13 عاماً فوق الكعكة. تغمض "لاله" عينيها وتتمنى أمنية، ثم تنفخ على الشمعة. يصفق الجميع لها. لكن هذه المرة، لم يرفعها والدها بين ذراعيه.
تُرينا "لاله" فيديو احتفال عيد ميلادها الثالث عشر. نسألها: "بماذا تمنيتِ عند قطع الكعكة؟"، فتقول: "طبعًا تمنيّت أن تُفتح المدارس".
لقد غيّر حظر التعليم بالكامل نظرة "لاله" إلى المستقبل وأحلامها.
توضح بأنها كانت تحلم في السابق بأن تصبح طبيبة في المستقبل، لكن بعد الحظر تغيّرت أحلامها. "عندما لم أتمكن من الذهاب إلى المدرسة بعد الصف السادس، قررت أن أواصل دراستي بأي طريقة ممكنة، وأن أصبح في المستقبل قاضية جيدة جداً".
سألنا "لاله": ما الذي جعلك تغيّرين قرارك؟ فقالت: "كثرة الظلم الذي رأيته في بلادي هو ما جعلني أقرر أن أصبح قاضية، وأُحاول –ما استطعت– أن أحقق العدل في بلدي".
حين عادت طالبان إلى السلطة، أقالت جميع القضاة السابقين، وقالت إنه لا مكان للنساء في النظام القضائي.
قبل أغسطس 2021، كان عدد القاضيات في أفغانستان يتراوح بين 250 و300 قاضية، أي ما يقرب من 8 إلى 10 في المئة من إجمالي الجهاز القضائي. لكن بعد أن أنشأت طالبان جهازاً عدلياً وقضائياً جديداً على أساس ما تسميه "الشريعة الإسلامية"، لم تبقَ أي امرأة قاضية في أفغانستان.
ميلاد "لاله" الثالث عشر
قبل أربع سنوات، كانت "لاله" فتاة تبلغ من العمر 9 سنوات، وكما قالت بنفسها، لم تكن تعرف طالبان جيداً. آنذاك، لم يكن يهمّها من أُزيح عن السلطة ومن وصل إليها. لكنها تقول الآن، في عمر الثالثة عشر: "لم تكن لدينا أي عداوة مع طالبان، لكنهم حرمونا من حقّنا في التعليم".
عقلها، بعد أربع سنوات من 15 أغسطس 2021، مليء بأسئلة بلا أجوبة: "لماذا أُغلقت أبواب المدارس في وجوهنا؟".

